هناك نوع فظيع من خداع النفس اسمه الشيطان جعلني أفعل كذا … هكذا تقول الزوجة الخاطئة واللص والقاتل عندما يواجهون بعيون زائغة عدسات الصحافة. يذكر صلاح عيسى في التحقيقات مع سفاحتي الإسكندرية ريا وسكينة أن المرأتين كانتا تؤمنان أن كله قدر ومكتوب! أي إنهما كانتا تصحبان الضحية لبيتهما، وتُسْكرانها وتخدِّرانها، ثم تخنقانها بمنديل مبلل بالماء، ثم تقومان بدفنها تحت أرضية الغرفة … كل هذا قدر ومكتوب ولا دخل لهما فيه! على أن خداع النفس الذي أتحدث عنه هنا ليس بهذه الدرجة، ولا يصل لدرجة ذبح النساء ودفنهن … إنه خداع كل لحظة في حياتنا
خدع المرء الكثيرين في حياته … ولعل هذا من ضروريات الحياة المهمة التي تبقينا أحياء، وكما يقول مارك توين: لولا البلهاء لما حقق الآخرون أي نجاح.
نناور ونخفي أفكارنا، ونكذب ونتزلف … وفي النهاية نحقق ربحًا أكيدًا. لكن أرقى أنواع الخداع طرًّا وأقواها تأثيرًا هو الخداع الذي نمارسه على أنفسنا.
أنهت تلك الطفلة قريبتي امتحانات النقل، فقالت في فخر إنها غشت كل الأسئلة وإن المعلمة (المس الآن) مرت على الطالبات وأمْلتهن بعض الحلول كجزء من سياسة إفساد التعليم السائدة … المدارس تَفهم الآباء وتفهم أن إرضاءهم أهم بكثير من قياس قدرات التلميذ الحقيقية … ليس هذا موضوعنا على كل حال. المهم أن قريبتي الصغيرة ظلت تلعب لمدة أسبوع ثم ظهرت النتيجة … هنا وجدت أنها حصلت على درجة أقل من زميلاتها. هكذا استشاطت غضبًا: «درجة كاملة؟ كيف؟ ولماذا؟ بالتأكيد هناك خطأ.»
فلما ذكَّرتها في أدب أنها غشت الامتحان بالكامل حسب كلامها، قالت لي مُحْنِقة إن إجاباتها كانت صحيحة تمامًا، ثم لو افترضنا أنني غششت فلماذا حصلت على درجة أقل من زميلاتي ونحن جميعًا غششنا من مصدر واحد وكتبنا نفس الكلام؟ قلت لها: إن درجة واحدة شيء تافه … لكنها لم تكن لتتهاون مع درجة أو عشرين درجة.
مرضت وتعكر مزاجها وارتفعت درجة حرارتها، حتى إن أمها هرعت إلى الإدارة التعليمية تطلب فحص درجات ابنتها … ودخلت في مشوار أوديسيوس الشهير بين المكاتب، ودفعت مبلغًا لا بأس به من المال.
في النهاية … لم تحصل الطفلة على أي درجة.
هذا أمر محير، الطفلة منذ البداية تعرف أنها نالت درجاتها بالغش … وتعرف ما كتبته فعلًا. هل من المهين أن يقوم المرء بالغش أقل من أصدقائه؟
أعتقد أن هذا يندرج تحت بند الذاكرة الزائفة … أنت تقنع نفسك بأنك لم تغش … وبعد فترة يكون هذا ما فعلته فعلًا. أنت تغير الماضي على طريقة الخواجة أورويل في ١٩٨٤ حينما يصير فلان Unperson؛ أي إنه لم يوجد قط، أو حينما تقنع الناس أنهم كانوا في حرب دائمة مع إيوراسيا منذ البداية. هكذا صارت قريبتي تؤمن بأنها تعبت في إجابة الامتحان فلم تحصل على حقها.
كنت أعتبر هذه القصة ضمن غرابة أطوار الأطفال المعروفة، لكني بعد ذلك صرت مدرسًا بكلية وعملت في الكونترول. بعد أن تُعلق النتيجة وينتهي كل شيء، تكتشف أن الفيلم لم ينتهِ بعدُ، وأن هناك ما يُدعى (تظلمات)؛ يستدعيك رئيس الكونترول؛ لأن هناك بعض أوراق الإجابة يجب التحقق منها … في عهدي كان معنى هذا أن تعود لأكوام من أوراق الإجابة الملفوفة بالحبال المكسوة بالغبار، تلك التي أفرغت الفئران أحشاءها ومثاناتها عليها … دعك من الفئران التي تجري على قدمك. لا يهم … هذا عملي وهو عمل نبيل … ما أجمل أن تعيد لطالب مظلوم حقه. لقد اكتشفت ذات مرةٍ خطأ في جمع الدرجات جعل طالبًا يرسب بينما هو يستحق تقدير (امتياز)، وقمت بالتصحيح … وشعرت يومها بأنني رائع وأن حياتي لم تذهب سدًى! جميل أن تجرب هذا الشعور ثانية حتى مع بول الفئران.
الطالبة تؤكد في خطابها أنها رسبت في المادة بينما هي تعرف يقينًا أن إجابتها كاملة. تصل لكراس إجابتها وتفتحها … لا شيء … بيضاء من غير سوء … فقط اكتفت بأن تكتب السؤال بلا إجابة أعلى كل صفحة. عندما تعيد هذا كله لمكانه وتغسل وجهك وتجلس لتشرب الشاي، تفكر في معنى ما رأيت … الفتاة تعرف يقينًا أنها لم تكتب شيئًا فلماذا قدمت هذه الشكوى؟
التفسير الأول: أنها مخبولة وأنها خلقت لنفسها ذاكرة زائفة، فتخيلت أنها أجابت عن الامتحان إجابة نموذجية.التفسير الثاني: هو أنها تسجل موقفًا أمام أهلها … لقد قدمت شكوى وسوف ترى … ثم عندما نعلن نحن أن شكواها بلا أساس تقول باكية: «هما حيغلَّطوا نفسهم؟ لازم يطلَّعوا نفسهم صح!»
ثم ترفع يدها إلي السماء مرددة: «حسبي الله ونعم الوكيل فيهم … ربنا ينتقم منهم.»
وبالطبع بعد قليل سوف تكوِّن ذاكرة زائفة، وتؤمن بأن إجابتها كانت ممتازة لكننا أوغاد … الأهم أنني جربت هذا الموقف مرارًا … إنه ليس نادرًا على الإطلاق.
هناك مثلًا ذلك الرجل النهم الذي نصحه الطبيب بأن ينقص من وزنه ويأكل المسلوق … هذا الرجل صديقي وأعترف أنه شَرِهٌ فعلًا … دعاني إلى الغداء في بيته في ذلك اليوم، وبدأت المأدبة … شعرت باحترام بالغ له عندما وضعوا أمامه طبقًا من الكوسة المسلوقة، بينما وضعوا أمامي أطباقًا دسمة مغرية بحق … هذا رجل قوي الإرادة فعلًا. أنا لا أستطيع أن أملك هذه الشجاعة.
قال لي بلهجة رثاء للنفس وهو يرشف الحساء الكئيب: «معذرة … هذه أوامر الطبيب.»
قلت له متصعبًا: «أعطاك الله الصحة.»
انتهى من شرب حساء الكوسة … وظل يرمق الطبق في حسرة. هنا فوجئت بصاحبة الدار ترفع الطبق الفارغ، وتضع أمامه طبقًا شديد الدسامة، ثم زوجًا من الحمام، وماسورة مسلوقة تسبح في بحر من الدسم والبهريز … وبدأ يأكل في نهم شديد.
فهمت من زوجته بعد ذلك أن الرجل افترض أن أكل المسلوق معناه أن يأكل المسلوق بالإضافة لما كان يأكله في الماضي!
أي إنه يأكل المسلوق كنوع من العلاج يؤخذ قبل الأكل! أو كأن التهام المسلوق طقس سحري يجب أن يمارس من أجل الشفاء ولا علاقة له بالأكل … النتيجة هي أن وجباته تضاعفت تقريبًا وازداد وزنه، وكان رأيه بالطبع هو أن الطبيب أحمق لا يفقه شيئًا.
دهشت جدًّا لهذا النوع من خداع النفس، خاصة أن الرجل يعيش في حالة مستمرة من الرثاء للذات، حتى لتوشك عيناي أن تدمعا من أجله.
لدي صديق آخر أقلع عن التدخين … وقد وجدته يجلس في مقهى يدخن الشيشة. وقال لي إنه يلجأ لهذا الحل كبديل صحي عن السيجارة! يقول أطباء الصدر إن الحجر الواحد يصل لثلاث عشرة سيجارة، وربما خمس وعشرين سيجارة … صاحبنا يعرف ذلك جيدًا لسبب لا تتخيله … لأنه طبيب صدر! لكنه مقتنع بهذا النوع من خداع الذات.
لكن الذاكرة الزائفة تلعب دورًا مهمًّا هنا كذلك … لو سألت هذا الرجل لقال لك إنه لا يدخن الشيشة بتاتًا، ولو بحثت في عقله لوجدت أنه بالفعل لا يعرف عن نفسه سوى هذا.
الأطباء النفسيون يعرفون طيف الأمراض المعروفة باسم Stomatization Syndromes.
لا أعرف كيف أترجمها، وأقترح أن تترجم ﺑ (متلازمات الجسمنة) … هذا اسم معقد رهيب آخر سوف يروق للجميع. هذا الطيف يبدأ بالتمارض … (الاستعباط) الصريح … المريض يصطنع أعراض المرض اصطناعًا ويعرف ذلك … ثم نمر بمتلازمة منخاوزن حيث يعتقد المريض أنه مصاب بمرض خطير ويدمن المستشفيات … بعد هذا تأتي الهستيريا حيث المريض يصطنع أعراض المرض اصطناعًا لكنه لا يعرف ذلك … أي إن خداع النفس صار طبيعة يمارسها دون أن يعرف أنه يمارسها … أعتقد أن الذاكرة الزائفة جزء أصيل من الهستيريا.
يحكي محمد حسنين هيكل في كتاب (بين الصحافة والسياسة) أنه قابل مصطفى أمين في السجن، فراح مصطفى أمين يقول له في حماسة: هل تذكر عندما فعلنا كذا وعندما قلت لك كذا؟… إلخ. ولم يكن لهذه الذكريات أي وجود. ثم فطن هيكل إلى أنها الذاكرة الزائفة … لقد ابتكر خيال مصطفى أمين هذه الذكريات ثم صدق أنها حدثت فعلًا، بحيث لم يعد يعرف ماضيًا آخر.
حكى لي صديقي أنه جلس مع خصم له حاول أن يهينه، فانطلق صديقي يلعنه ويلعن أهله: «قلت له: أنت إنسان منحط … أمثالك يجب أن يُمزقوا ويُلقوا للكلاب … لو رأيت وجهه وقتها! … لم يستطع أن ينطق حرفًا… قلت له: لا تكن خصمًا لي فأنا أعرف كيف أعذبك وأهينك.»
أطري شجاعته وزلاقة لسانه، ثم أبحث خلسة عن بعض شهود الواقعة، فيقولون لي إن صاحبنا كان هو الطرف الصامت العاجز المثير للشفقة … لقد راح خصمه يهينه ثم بدأ يمزقه ويسلخه وهو عاجز عن الرد. ما حدث بعد هذا هو ما يطلق عليه الفرنسيون (شجاعة السلالم) … بعد انتهاء الموقف راح خياله يصور له ما كان يجب أن يقوله ويفعله. بعد هذا بدأت ظاهرة الذاكرة الزائفة تعمل وصار هذا هو ما حدث فعلًا.
كثير من الناس يجبنون في المشاجرات أو لا يجدون ردًّا مناسبًا، ولكنهم بعد المشاجرة يؤكدون لك: «لم أُرد أن أردَّ حتى لا أرتكب خطأ … لقد تركت له الحبل على الغارب ليخطئ كما يريد!»
وهكذا يحوِّل جبنه وبطء تفكيره بطولة ونبلًا … لست بارعًا في المشاجرات بتاتًا، وأجد أفضل الردود بعد انتهاء الموقف، لكني أحتفظ بالذكرى القاسية كاملة فلا أقنع نفسي أنني انتصرت.
كلما قلَّبتَ عينيك في المجتمع وجدت خادعي النفس.
عندي مجموعة كبيرة من السراويل … بعضها يعود لأيام كنت نحيلًا رشيقًا، وبعضها يعود لأيام صرت بدينًا. أمس ارتديت بنطالًا من أيام الرشاقة فأوشكت أن أموت اختناقًا، وشعرت أن حجابي الحاجز صار فوق أذني … كنت أتنفس بصعوبة، وصرت عاجزًا عن الجلوس أو السعال أو التنفس. اليوم ارتديت بنطالًا من أيام البدانة، فشعرت بأنني مستريح وأن البنطال يحتاج إلى حزام يثبته على خصري حتى لا يسقط … قلت لنفسي إنني بدأت أفقد وزنًا وصرت رشيقًا لأنني لم أتناول العشاء أمس.
نعم … صرت رشيقًا في ليلة واحدة، لكن هذا لا يمنعني من السخرية ممن يخدعون أنفسهم بلا توقف!
وماذا عن القراءة؟
إن عدد من لا يقرءون لأنهم مقتنعون أنهم مشغولون، أو لأن عيونهم مريضة لا يمكن أن تمسك به. معظم الناس لديهم كتاب مهم لا يجدون الوقت كي يجلسوا ليقرءوه.
أما عن الحب فحدث بلا حرج … عندما يخطب الشاب الفتاة يكتشف فجأة أنه يحبها بجنون … من مكانٍ ما تخرج القصائد الشعرية الرديئة والدباديب والأغاني العاطفية، ويقفان معًا يشاهدان الغروب … أضحك دائمًا كلما رأيت هذا المنظر لأنه في ٨٠٪ من الحالات لا يبالي أحدهما بالغروب ويجده مملًّا … هو يفضل نشاطًا بيولوجيًّا أكثر حيوية، وهي تفضل أن يتجولا ليريا المحلات ويدفع دم قلبه … لكنهما مرغمان على ذلك … لا بد من تقمص حالة الحب كما تظهر في التليفزيون والسينما … كلاهما يقنع نفسه أنه يحب الآخر بعنف.
بالطبع هذا هو الفصل الأول من القصة، قبل أن تتطور الأمور بعد الزواج … هكذا قد تقف ملوثة بالدم والسكين في يدها أمام عدسات الصحافة، وتكرر بلا توقف أن كله قدر ومكتوب والشيطان هو الذي أرغمها على هذا! أو تنجب فتذهب للإدارة التعليمية لفحص أوراق ابنتها التي نقصت درجة عن زميلاتها برغم أنها غشت الامتحان بالكامل!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق